عرض مشاركة واحدة
قديم 30-04-07, 02:23 AM   #11
فتى الرياض

من كبار الشخصيات
افتراضي

 

(9)
كانت الساعة الثامنة صباحا عندما نزل الجد من الحافلة يحمل سامي ويتجه نحو المستشفى عابرا الشارع المزدحم بالسيارات وحينها بكى الطفل ، قال الجد : ما يبكيك أيها المدلل ؟
قال وهو يجهش : لا أريد الكهرباء ، أنا أكرهها جدي .
قال وهو يقدم آخر خطوة متجاوزا الشارع المزدحم بالناس والعربات : ألا تريد اللوز ، والحمرية ؟
قال وقد علا صوته : أريدها ولكن بدون كهرباء .
قال الجد : لا لوز ولا حمرية بدون العلاج .
الطفل وقد بدا أنه يقدم تضحية : حسنا لا أريد اللوز والحمرية .
الجد وقد تظاهر بعدم الاكتراث : طيب ، طيب ، سآخذ اللوز والحمرية ونعود للبيت ولكنك لن تأكل منها ولا حبة .
الطفل متحسرا : لا أريد منها ولا حبة .
الجد وهو متوجه نحو بائعة اللوز : انظر ، سامي ، اللوز مقشر وجديد .
الطفل : لا أريده . عندها وصلا لبائعة اللوز التي كانت تصيح : لوز ، حمرية ، حلاوه ، فصفص .
الجد : أعطني بقرشين لوز مقشر ، وبقرشين حمرية .
ناولته ما طلب وأخذت منه أربعة قروش وقال وهو يلتفت لسامي : تعال نجلس على درج المستشفى .
الطفل : لماذا ؟
الجد : تعبت من حملك على كتفي ، أريد أن أستريح قليلا وآكل اللوز والحمرية .
وعند الدرج جلس العجوز بجانب رجل وأجلس الصبي على فخذه وتناول كيس اللوز فتحه وأخرج حبات منه وقذفها في فمه دفعة واحدة والطفل ينظر إليه وأيضا الرجل الجالس قبلهم أخذ ينظر باستغراب للجد فقال الجد مخاطبا الرجل : أتريد لوز ؟
قال الرجل : يبدوا أن الصبي يريده .
الجد متظاهرا بعدم الاكتراث : لا ، لا يريد لقد أصبح يكره اللوز .
الطفل : لا ، لا أكره اللوز ، لكني لا أريده .
الرجل : لا يوجد طفل في الدنيا لا يريد اللوز ، هل من سبب ؟
الجد وقد التفت للرجل وغمز له : لا يريد العلاج ، وأنا لا أعطيه اللوز بدون علاج .
الرجل : لا يابني ، العلاج مفيد .
الطفل : لكن الكهرباء مؤلمة .
الرجل : أي كهرباء ؟
الجد : ابن ابنتي هذا يعاني من الشلل وهو يعالج بالكهرباء والعلاج الطبيعي ، ولم يكن يشعر قبل عام بالكهرباء ولكنه الآن يشعر بها وهذا دليل على أنه يتماثل للشفاء لكنه لا يريد التعافي بسرعة لنوقف الكهرباء عنه ، يعلم أننا نحبه ونريد له الخير وهذا زاده دلالا علينا ، أرأيت كيف يتدلل على جده المسن ؟ وأنا أحمله من جنوب جده إلى وسط البلد على كتفي وهذا جزائي منه ، أتعلم دعك منه إنه مدلل ؟
الرجل وقد بدا على علم بخدعة الجد : أنا لا أحب المدللين ، المدللين ليسوا رجالا ، بل هم أشبه بالبنات .
الطفل الذي أغضبه كلام الرجل : هيه أنت ، أنا لست بنتا ، وأنا لست مدللا .
الجد : وماذا تسمى رفضك للعلاج ، الرجال يتحملون ضرب الرصاص والسيوف ، وأنت لا تتحمل لسعة خفيفة من كهرباء .
الطفل بدا متحديا : تقول ماذا ؟ لسعة خفيفة ؟ بل هي قويه ، جربها لتعرفها .
الجد أيضا متحديا : بل لسعة خفيفة ، لكنك مثل البنات لا تتحمل الألم .
الطفل وقد بدا واثقا هذه المرة : تحملتها أكثر من عام ألست رجلا يا .. وقال للرجل : ما اسمك ؟
الرجل مبتسما : ياسين ، نادني عم ياسين .
الطفل : هاه عم ياسين ألست رجلا ؟
ياسين : أكيد ، تحملتها أكثر من عام أنت رجل شجاع .
الجد : من هو الشجاع ؟ هذا .. وقال بسخرية واضحة : أنت لا تعرفه فهو طوال مدة العلاج وهو يبكي ويصرخ كلما جاء للمستشفى .
الطفل : لكنني صغير ، والكهرباء مؤلمة ، ثم كل الأطفال في المستشفى يبكون ، لماذا لا أبكي مثلهم ؟
ياسين : لا بأس أبكي ، يا .. وقال : لم أعرف اسمك بعد ؟
قال الطفل : سامي ابن محمود .
وبدا أن الاسم ليس غريبا على ياسين فقال : محمود ؟ أنت ولد محمود الذي يعمل في أم الجود حاليا ؟
قال الطفل : نعم ، هل تعرفه ؟
ياسين : كيف لا أعرفه لقد عملنا سويا في مصنع الصابون الذي يملكه أبو داود ، ثم ألتفت للعجوز مخاطبا : كان من أعز أصدقائي وزملائي في العمل قبل أن يقدم استقالته ويعمل في أم الجود .
العجوز : تشرفنا بمعرفتك ، والله إنها صدفة خير من ألف ميعاد .
ياسين : يا الله ..كان محمود قد حدثني عنه كثيرا عندما مرض وقد حزنت عليه كثيرا ، وكنت أتألم لألم محمود الذي كان باله دائما مشغول على مستقبله وكنا نهون عنه دائما ، حتى وجد هذا العمل الذي هو طبعا أفضل من عملنا هذا الذي نحن فيه ، فرائحة الصابون ألهبت أنوفنا وأحرقتها بالعطس .
الجد : كان الله في عونكم .
ثم التفت ياسين للطفل قائلا : أحمد الله يا بني ، فلديك أب وجد يحبانك كثيرا ويريدون لك الأفضل ، كن مطيعا لجدك واصبر على الكهرباء مادام فيه علاجك .
الطفل : حاضر ياعم .
سمعها الجد فاستبشر خيرا وقال وهو يلقي حبات اللوز في فمه : هو طفل طيب لكنه لا يحب اللوز ولا الحمرية .
الطفل راجيا جده : جدي لا تنهيها كلها ؟
الجد وقد حشر اللوز في فمه فتكلم بصعوبة : لماذا ؟ أتريد منها ؟
الطفل : نعم أريد .
الجد : لن أعطيك بدون العلاج .
الطفل وقد تذكر قليلا ألم الكهرباء فقال : تقصد الكهرباء .
الجد : أقصد الكهرباء .
ياسين مخرجا من جيبه نوعا غريبا من الحلوى غلفت بورق لامع : وأظن أنك لا تحب هذه الشوكلاته الجميلة التي بها الحليب وبقلبها لوزا لذيذا ؟
رآها الطفل فقال ببهجة : بلا أحبها .
غمز الجد لياسين وقال متحديا الطفل : لن تأخذها ، إلا بالعلاج .
ياسين أيضا متحديا الطفل : هذه الحلوى هي فقط للرجال الذين يتحملون العلاج ويصبرون على ألمه ، ثم توجه للطفل مشيرا له بالحلوى قائلا : أتصبر على الكهرباء ؟
هز الطفل رأسه بالإيجاب ، وتناول الحلوى من يد العم ياسين ، فقال الجد : يمكنك الآن أكلها ، وغمز لياسين قائلا : أراك على خير قبل أن يبدل الولد رأيه . ثم قام ناهضا ورقى درجات عتبة المستشفى والطفل يودع صديق والده ملوحا بيد وباليد الأخرى الحلوى يحاول نزع غلافها بأسنانه .














كان صراخه مدويا في أرجاء العنبر وهو ملقي على سرير أبيض ويديه وقدميه مربوطتان على السرير ، يصرخ وهو ينظر ناحية جده المبتعد كيلا يسمع صراخ الطفل وعندما خرج من العنبر كان ينادي بصراخ : جدي تعال ، سأموت .
سمعها الجد وكان قد سمعها مئات المرات لكن هذه المرة كان الصراخ أعلى من ذي قبل ونبرة الاستنجاد في صوت الطفل جعلته يلتفت له فرآه في وضع مزري و عينين جاحضتين مما جعله يتراجع قليلا للوراء ثم جاء إليه في مشيته الهادئة وطرق عكازه يسبق وقع قدميه ، نظر إليه بأسى أخذ منديلا من جيبه ووضعه على وجه الطفل الذي يشنج ببكائه مسح عينيه ثم أنفه وقال : كن رجلا .
الطفل وهو يبكي راجيا : سأموت يا جدي ، قل لهم هذا يكفي .
الجد وعينيه تبرق من دمعة مكابرة أخفاها : طيب سأخبر الطبيب .
الطفل حاثا الجد : بسرعة جدي ، قل له أنني سأموت .
الجد متراجعا للوراء : حاضر بني .
وتوجه الجد للطبيب الواقف بجانب طاولة الاستعلامات ومشغولا بكتابة ورقة فبادره قائلا : أصبح الولد يشعر بألم الكهرباء أكثر من ذي قبل ، أليس هناك خطورة عليه .
وضع الطبيب القلم بجيبه العلوي وأخرج نظارته وضعها أيضا في جيبه العلوي وقال : لا تخف عليه ، ليس هناك خطورة من لسعة الكهرباء الآن ، لأنها خفيفة جدا وهي موصلة بأطراف الأعصاب ، هي ليست خطرة ولكن شعوره بألم الكهرباء نابع من استجابة الأعصاب للكهرباء التي لم يكن يشعر بها من قبل ، وهذا يعطينا أمل كبير بأن الولد في طريق التقدم للشفاء ، والحقيقة أنني استغربت كيف لا يمشي حتى الآن ، وتناقشت مع بعض الزملاء في المستشفى من بينهم الطبيب النفسي الذي قال : بعد شفاء العصب وتقوية العضلات ليس هناك سبب يمنعه من المشي وأنه من المحتمل أن الطفل يعاني من مشكلة نفسية قد تكون هي التي منعته من المشي ، وأظن يا عم أن الطفل قد بدأ يعتاد على حمله وطريقة مشيه على أربع مما دفعه للخوف من أن يقف فيسقط ، أظن أنه فقط يحتاج إخراج هذه الفكرة من رأسه وإذا تغلب على الخوف الذي بداخله أؤكد أنه سوف يسابقكم ركضا .
الجد وقد بدا متفائلا : لكنه مر عليه عامان ولم يستطع الوقوف بعد أترى أن هناك نتيجة ؟
الطبيب : أؤكد لك أنه لم يعد الأمر غير مسألة نفسية .





  رد مع اقتباس