هذه الرسالة تفيد بأنك غير مسجل في في آي بي للبيع والشراء : بيع , شراء , سيارات , ارقام مميزه , لوحات مميزه , رقم مميز , جوال . للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

قديم 05-02-08, 09:34 AM   #1
وحيد المشاعر

( متسوق رسمي )

 

البارودي ومدرسته الشعرية

وثب البارودي بالشعر وثبة عالية ردت إليه ديباجته المشرقة المتينة، وأغراضه الشريفة ومعانيه السامية ، وحررته من الغثاثة والركة وقيود البديع المتصنع وحلاه المسترذلة، وكان للبارودي مدرسه قوية تتلمذ عليه فيها شعراء نجباء ، فجاروه في متانة أسلوبه والبعد عن مظاهر الضعف. 1

نبذة عن حياته:
ولد محمود سامي البارودي في القاهرة عام 1839م ، لأسرة شركسية تنتمي إلى حكام مصر من المماليك، وسبب تسميته ( البارودي ) يرجع لبلدة تقع في محافظة البحيرة بمصر كانت لأحد أجداده في عهد الالتزام ، وكان أبوه ( حسن حسني) ضابطاً في الجيش المصري، ظلّ يترقّى حتى صار أميراً للمدفعية، ثم عيّن مديراً لمديرية ( دنقلة) في السودان، ولكنه توفي وابنه في السابعة من عمره.

عاش في كنف أسرة موسرة، فربته أمه خير تربية، وأحضرت له المعلمين ليلقنوه القرآن الكريم والفقه الإسلامي وبعض علوم العربية، ثم ألتحق في عام 1850 بالمدرسة الحربية ليتخرج فيها ضابطاً برتبة (باش جاويش) سنة 1854م .

وكانت التركية لغة التعليم والتحدث ، ولكن البارودي ظل على اتصال بالعربية وبالشعر العربي، وكان يغذي نفسه بقراءة دواوين الشعر العربي التي بدأت المطابع تصدرها هنا وهناك واطلع على المخطوطات الشعرية في المساجد، وكانت تستهويه أشعار الحماسة والبطولة والقوة وحفظ الكثير منها .

ولما كان الجيش في عهد عباس الأول وسعيد مغلول اليدين قرر البارودي أن يترك الجيش ، فغادر مصر إلى الأستانة حيث ألتحق بوزارة الخارجية، وأتيح له هناك أن يعمّق ثقافته التركية والفارسية ونظم الشعر ، ثم عاد من الأستانة عام 1863 وهو في الرابعة والعشرين ليبدأ صفحة جديدة من حياته.

تدرج في مناصبه حتى عينه إسماعيل باشا (عميد) ليتسلم قيادة الفيلق الرابع من عسكر الحرس ، فابتسمت الحياة للبارودي ، وكان شعره عندها موزع ما بين الفخر والغزل والتغني بجمال الطبيعة.

.............................
1 - في الأدب الحديث / عمر الدسوقي / الجز الثاني / صفحة 350

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

ولما شبت الثورة في جزيرة (كريت) على الدولة العثمانية أرسله إسماعيل قائداً لكتيبة تشارك القوات العثمانية في قمع الثورة ، ثم لما عاد عينه إسماعيل (باروا) بدلاً من إعادته إلى الجيش، ثم اتخذه أميناً لسره، وظل في معيّته اثنتي عشر سنة.

وأعلنت روسيا الحرب على تركيا عام 1877م فأرسل إسماعيل جيشاً لمعونة السلطان العثماني ، فسافر البارودي معه واشترك في هذه الحرب، وقد كافأه برسمين وبرتبة (أمير للواء).

ثم عين مديراً للشرقية, ثم محافظاً للقاهرة، ولكن الإنكليز والفرنسيين تمكنوا من إحكام السيطرة السياسية على مصر، فعُزل إسماعيل في عام 1879 وتولى ابنه توفيق مكانه، فعين البارودي مديراً للأوقاف ثم وزيراً للحربية، ولكن رياض باشا رئيس الوزراء دس عليه عند توفيق فاضطره للإستقاله ، وأخذ في هذه الفترة ينظم القصائد الثائرة التي تدعو الشعب لليقظة.

لكن البارودي ما لبث أن كلف بتأليف الوزارة عام 1882 فألفها من زعماء الثورة (العرابية) وأنصارها وجعل لعرابي وزارة الحربية والبحرية، ولكن الاستعمار ظلّ يكيد لمصر، فاستقالت الوزارة وأخفقت ثورة عرابي وأعوانه، وفي مقدمتهن البارودي الذي سُجن ثم نفي إلى جزيرة سرنديب ( سيلان) .

تزوج في منفاه من ابنة صديقه ورفيقه في المنفى يعقوب سامي ، ثم عاد البارودي إلى وطنه في غضون سنة 1900وقد لزم بيته بعد أن فقد بصره، وأخذ ينقح شعره ويعد ديوانه للطبع، ثم أسلم الروح إلى بارئها في الخامس عشر من كانون الأول عام 1904، فرثاه الشعراء ومنهم خليل مطران وحافظ إبراهيم.

الأغراض التي تناولها في شعره:
1)الشعر الذاتي والوجداني:
وفيها أظهر الشعراء المحدثون ومنهم البارودي الشكوى وبث لواعج النفس وآلامها وأحزانها ، ومناجاتها ، وقد شكى البارودي وتألم من منفاه ولكن من أتى من بعده ممن تعرف على الثقافة الغربية أفاض في هذه النفسيات التي ينفس بها عن آلامه


أما البارودي فإنه يكاد التيار الذاتي في ديوانه يشمل شعره كله فهو فارس فرسان زمانه اشترك في معارك أهلته للسيف، وهو معجب بأخلاقه ورجولته وإذا أفردنا قصيدة من قصائده الطويلة وجدناه يُطيل الحديث فيها عن نفسه ليشمل ذلك القصيدة كلها ومن ذلك قوله :
فلا تسألـــي مني الزيادة في الهوى .. رويداً فهـــذا الوجدُ آخرُ ما عِنــْدِي
وهأنا مُمقتــادٌ كما حكَــمَ الــــــهوى .. لأمرِكِ فاخشيْ حُرمــةَ اللهِ والمـجْدِ
فلو قُلتِ: قم فاصعد إلى رأس شاهقٍ .. تقولينَ حيّا الله عهــْدك من عهــدِ

فهو يتحدث فيها عن وفائه في الوصال وعن قبول العاشق الملتاع للذل والهوان والانقياد لسلطان الهوى وإطاعته الحبيبة، وهذا ليؤكد لنا أنه عاشق متميز.

2) الفخر:
من الأغراض التي اضمحلت ، وخبا بريقها، وقد كان لها شأن أي شأن في القديم، وعند البارودي، وكان الشعراء في الجاهلية، وفي الإسلام شجعاناً أشراف فكان من الطبيعي أن يتغنوا بمفاخرهم ومفاخر قبائلهم وشجاعتهم ، وفي العصر الحديث انقلب الفخر إلى شيء أخر حيث نجد الشاعر يشيد بأمجاد أمته وتاريخها وكذلك بموهبته الشعرية.

ونجد البارودي يفخر بأمته، وتبرز الذاتية في شعر الفخر فنجده يفخر بما كان له من المكانة العسكرية والسياسية وهو كثير الحديث عن هذه الذات الأبية الوفية التي لا تعرف الأحقاد إليها سبيلاً وحديثه عنها مباشر يستخدم فيه ضمير (أنا) وفيه بعض المبالغات،
يقول:
أنا المــــرءُ لا يُطْــغِـه عزٌّ لثـــروةٍ .. أصـــابَ ولا يلـــوي بأخلاقـــــَهَ الكدُّ
أصــدُّ عن الموفـــورِ يُدركهُ الخنــَا .. وأقْنع بالميســـورِ تعقبـــهُ الحمــــــدُ
ومن كان ذا نفْسٍ كنفْسي تصـدَّعتْ .. لعزتهِ الدنيـــــا وذلت له الأُسْـــــــدُ

وهو لا يفخر بنفسه فحسب ،وإنما يفتخر ــ كذلك ــ بما يقوله وينتجه، فهو عبقري زمانه والشاعر الذي لا يجارى، وهذا الإعجاب الشديد بالذات وبالشعر وبالأخلاق وبالفروسية جعله في كثير من الأحيان يقسم العالم إلى قسمين، قسم كبير ( الناس) وهم قليلون الوفاء غدّارون ، أصحاب نميمة، وقسم آخر هو الشاعر وحده .

ولذلك كان يقابل بين أخلاقه وأخلاق الناس ، فإذا هو شاك في إخلاص الناس ووفائهم، بل هو يحذّر من مخالطتهم، إن قضية حذره من المجتمع جديرة بالنظر والتمعن، فهي غالبة في شعره، ممتدة فيه أفقياً وعمودياً في الزمان والمكان، وهي سمات شخصية ينظر إلى المجتمع والحياة بعنين لا تريان سوى الخيانة والغدر والتملق.

3) الوطنيات:
رأينا البارودي يقف عند الحوادث الخاصة التي تأثر بها والتي في نفسه، ولكن الأحداث التي مرت بمصر، والاحتلال ومصائبه، والمطالبة بالدستور، ثم الثورة الوطنية العامة سنة 1919 قد نبهت الشعراء إلى معان جديدة وأغراض حديثة في الشعر القومي .

فالوطنية تشمل: الأناشيد الحماسية ، وتصور الفظائع التي ارتكبتها الغاصب، والمناداة بالاستقلال ، والتحرر من ربقة الأجنبي ، والحث على الثورة وتصوير الصدام بين جنود الاحتلال، والوطنين المجاهدين ، ولقد خاض معظم الشعراء في هذا الميدان ، وبرع كثير منهم كشوقي ، وحافظ، وأحمد محرم ، والكاشف ، وعبد المطلب ,غيرهم

وقد عاش البارودي تجربة الغربة غير مرة على درجات مختلفة، وهو متعلق بمصر تعلق الطفل بأمه، ومن شعره الحنين ما نظمه وهو في جزيرة كريت في بلاد البلقان
يقول:
وحيدٌ من الخـــلانِ في أرضِ غربـــةٍ .. إلى منهل المطــروق والمنهجِ الوعرِ
فهل لــغريبٍ طوّحتــــْه يدْ النــــــوى .. سراجٌ وعضبٌ ذا يضيء وذا يـغري
وهل زمنْ ولّـــى وعيــشٌ تقيّضــــتْ .. ولا عجبٌ ما لدّر ينشأ في البــــحري

ولكن تجربته في الحنين وهو في ( سرنديب) أعمق وأشد تشابكاً، فهو يحن هنا إلى زوجته وأولاده والأهل والوطن وذكريات الصبا والعشق، وهو ليس بعيداً عن الأهل والوطن وحسب ، ولكنه منفي مبعد ممنوع من العودة ، بل تقف دون عودته قوى الاحتلال الإنكليزي ذاتها التي رحلته على إحدى سفنها قبيل الفجر، وعزز هذا الحنين أمران .





أولهما: أنه لم يختر ( سرنديب) منفى له ، وإنما أكره على الذهاب إليها بعد أن حكم عليه بالنفي المؤبد، وهي بلاد يحتلها الإنكليز إضافة إلى أنه لم يكن معجباً بعادات أهلها وأخلاقهم .
ثانياً: أنه كان يوازن بين مكانته في الماضي حين كان في مصر رجلاً فارساً من فرسان المعارك أو سياسياً من رجال السياسة ، وبين ما هو عليه اليوم فهو إنسان لا شأن له منبوذ.

4) الغزل:
أحتل المقام الرفيع عند الشعراء ، وإن سار كثير منهم في أول الأمر سيرة الأولين وقلدوهم في الأوصاف المادية، وفي تشبيهاتهم، ولكنه ما لبث أن دخل عليه شيء كثير من تحلل العاطفة ، وتصوير نزوات النفس.

ولقد تباين الشعراء في هذا الفن ، فمنهم من تكلفه تقليداً للقدماء، إرضاء لفئة الشعراء دون أن يصدر عن عاطفة أو هوى، ولذلك جاء شعراً جافاً من الأحاسيس تلمس فيه أثر الصنعة ، ومنهم من صدر فيه عن نار مشبوبة بين جوانحه فمثله بمعنى جميل ونظم رقيق ، وصوراً زاهية مثل شوقي وصبري( والبارودي)

أما البارودي فقد أحتل موضوع الغزل في شعره مساحات واسعة من قصائده ومن ديوانه ومن حياته، فقد ظلّ شاعراً غزلاً حتى نهايات حياته، تزوّج مراراً وتغزل بأكثر من امرأة ، فمن لمياء إلى ليلى إلى هند وأسماء على الرغم من أننا نلمح في غزله سمات الحب العذري، فهو العاشق المحروم والمتيم المظلوم، ويبدو أن شعره هذا يقسم إلى قسمين : قسم في النسيب، وهو نتيجة لمحاكاته للشعراء القدماء ، وقسم لحب حقيقي جارف عاشه حقيقتاً.
يقول:

غلبَ الوجــــدُ عليه فبـــكــى .. وتولـــى الصــبرُ عنه فَشَكــــَا
وتمنى نظــــرةً يشفــي بهـــا .. عِلة الشوقيِ فكـــانتْ مهْلكــــا
ياغــزلاً نصـــبتْ أهــــدابــهُ .. بيدِ السحـــرِ تضمي شبكـــــَا
قد ملكت القلب فاستوصي به .. إنه حقٌ عـــلى من ملكـــــا


5) الحماسة:
وكان البارودي قد أبدع في الحماسة وأعادها قوية مشبوبة الأوار، لماعة السيوف كما كانت في عهد البطولة العربية الأولى، فإنه فارساً خاض غمرات الحروب ، وشهد المعامع وصيال الخيول، وقصف المدافع، أما الذين أتوا بعده فإن أتوا بشيء من الحماسة في شعرهم فذلك عن تقليد لا عن أصالة.

وقد فاق البارودي شعراء زمانه في هذا الغرض بل فاق الشعراء الأقدمين ، وربما عاد ذلك إلى طبيعة شخصيته واعتداده بنفسه وبآرائه ، وبنظرته إلى الناس والمجتمع في زمانه ، وربما عاد ـ كذلك ـ إلى مكانته العسكرية والسياسية ولذلك كان صادقاً في هذا الموضوع كل الصدق ، ولا تكاد قصيدة من قصائده تخلو من هذا الموضوع ، وقد أفرد لها بعض قصائده .
يقول:

أدركــتُ قاصـــــية المحامد والعـــــــلا .. وشــــــــأوْتُ فيها كــــلَّ أصــيد مُسنِــمِ
فأنا ابنُ نفســــي إنْ فخـــرت وإن أكــنْ .. لأغــرّ مـــن سلـــفِ الأكارمِ أنتــــمي
والفخـــرُ بالآبـــاءِ ليــــس بنــــــافِعٍ .. إن كانــت الأبنـــــــــاءُ خُور الأعظـــمِ

6) وصف الطبيعة:
من الأغراض التي صار لها مقام مرفوع في الشعر الحديث الوصف بعامة ، ووصف الطبعة بخاصة والوصف من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حياً وكانت نزعة العصر إليه قوية، لأن الشاعر لا تدفعه إليه رغبة أو رهبة، وإنما يدفعه إليه انفعاله وحساسيته بما يحيط به.

وقد اختلف الشعراء في نظرتهم إلى الطبيعة اختلافاً بيناً ، فمنهم من يرى وجهها الضاحك، ورياضها المزدهرة، وأطيارها المغردة، وشمسها الضحية ونجومه الزاهية ورياضها الزاهية ومروجها الخضراء،.

ومنهم من يرى وجهها العابس ، فلا يحس إلا ليلها الأسود ، وسماءها الملبدة بالغمام، وريحها الزفوق، وأعاصيرها الجارفة ، وبراكينها التي تصب الحمم ، وزلازلها المدمرة ، وأمطارها العنيفة ومفاوزها المهلكة.

ومنهم من يراها في كلا وجهيها ، فينتشي طرباً حين تصفو وتحلو وتشرق ، ويكتئب حين تزمجر وتغضب ، وترينا وجهها الكالح .

ثم هم بعد ذلك كله يختلفون في تصويرها فبعضهم يصور ما في الطبيعة تصويراً مادياً محسوساً كأنه آلة تصوير، يزخرف ، ويشبه، ويغص شعره بشتى ألوان الاستعارات مثل البارودي .

وبعضهم يبعث في الطبيعة روحاً حية. ويكتنه أسرارها ويغوص في أعماقها ،ويصورها ملونة بعاطفته الخاصة ، وحسبما يوحي إليه خياله المجنح، مثل شوقي.

وقد يقف الشعراء على آثار الأمم الماضية، ومشاهد العمران فيغصون في أعماق التاريخ ويصورونه تصويراً بارعاً ، وقد فاق شوقي سواه في هذا المضمار.

وقد وصف الشعراء المعارك الحديثة ، ولكنهم للأسف قلما جددوا في أساليبهم وتشبيهاتهم فتجدهم يتحدثون عن السيوف والرماح والدروع والمغافر وينسون أن الحرب الحديثة فيها المدافع والمدرعات والطائرات والغواصات ( وهذا ظاهر عند البارودي)


7) الهجاء:
ولم يبقى منه إلا مداعبات لطيفة فيها تهكم وسخرية وتصوير، لا تتناول المحارم والأعراض، ولا تفحش ، وإنما تعتمد على النكتة اللاذعة، والتصوير البارع،وإذا احتدم الهجاء بين الشعراء أفحشوا ولكنهم يستحيون من تدوينه وإنما يتناقله الرواة شفاها، وكأنهم يخشون أن يؤثر عنهم في عصرنا هذا .

والبارودي له هجائيات في رجالات عصره وأخلاقهم، وبعض هجائه تصويري يتابع فيه القدماء ولا سيما ابن الرومي ، ففيه سخرية مرة ، يلتقط العيوب ثم يجسمها، كقصيدته الدالية التي يصور فيها صاحباً له واصفاً نهمه وشرهه المفرط في الطعام ، ومن هجائياته وصفه لجارة له وأولادها الذين أقضوا مضجعه.
يقول:
إلى الله أشكو طــول ليلي وجـــارةً .. تبيتُ إلى وقــت الصبــاح بإعـــوالِِ
لهــا صبيــة لا بـــارك الله فيـــــهمَ .. قباحُ النواصـــي لا ينمْن على حـالِ
صـــوارخُ لا يهدأْنَإلا مع الضــحى .. من الشـرِ في بيتٍ من الخيرِ ممحال

8) الرثاء :
رثاؤه كلاسيكي ذاتي، يقع عليه الخبر وقوع الصاعقة ، ويحمّل الدهر تبعة تلك المصيبة، ولكنه يعود أحياناً فيسلم تسليم المؤمن لقيادة الدهر، كما في رثائية زوجته ( عديلة يكن) وهي من أجود رثائياته، وعزز جودتها بعده عنها منفياً في ( سرنديب) في أثناء الوفاة،وأنها كانت القائمة على تدبير شؤون أولاده في مصر، ثم إنها توفيت وهي في السابعة والثلاثين، وله منها ابن واحد وأربع بنات .

ويتداخل في رثائياته شيء من التعقل والحكمة، فيدرك أن كل أمريء صائر إلى الموت، حتى إن الأمم نفسها تموت وتنهض أمم غيرها ، ولذلك نفسه.

وهو في رثائه باكٍ حزين القلب ، وقد رثى الكثير من أصدقائه، كما رثى ابنته ووالدته وولده علياً ووالده الذي رثاه بعد فترة طويلة فجاء قسم من القصيدة مديحاً خالصاً.



يقول البارودي في رثاء والده:

أبي ومن كأبـــي في الحــيِّ نعلمـــهُ .. أوفــى وأكـــرمُ في وعــــدٍ وإعـــــادِ
مهــذبُ النفـــسِ غـــــراءُ شمائلـــُهُ .. بعيــدُ شأنُ العـــلا طـــــلاع أنــــجادِ
قــد كان لـــي وَزَراً آوي إليـــه إذا .. غاضَ المـعينُ وجفّ الزرعُ بالـوادي

9) الشعر الديني:
شعراء هذه الحقبة زهاد متعبدين يحثون على التقوى، وترك الموبقات، والتمسك بالفضيلة وعدم الانخداع بالدنيا وزخرفتها، وهم شعراء يتغنون بفضائل النبي عليه السلام، ويتقربون إلى الله بمدحه، ويستشفعون به، ويستحثون أممهم على استرجاع مجدهم القديم، وعزهم الزائل ، وقد كثروا من الكلام في مطلع كل عام هجري احتفاء بالهجرة ، وجعلها موعظة وذكرى للأمم التي تنشد الحرية.

وقد تناول البارودي هذا الموضوع وتطرق للحديث عن الزهد والحكمة وزهده بعيد من التعلق بالذات كما نجد ذلك في الشعر الصوفي ، فهو لا يرقى إلى درجة هذا الشعر، وهو تفكير في الحياة والموت والتبصرة في حال الأولين الذين مضوا ومضت أملاكهم ومنازلهم.

وهو ليس زهد التائب إلى ربه يستعطفه ليعفو عن زلاته، وزهده قريب من الحكمة والرثاء وهو يتابع في ذلك الشعراء الأقدمين ، لينظم في أغراضهم جميعها ، ومن أجمل زهدياته تائيته التي مطلعها:

كــــلُّ حيٍّ ســـــــــــــــيموتُ .. ليـــس في الدنيـــــا ثــــــبوتُ

10) المديح :
فيه يبين إعجابه بهذه الشخصية أو تلك وبهذا الموقف أو ذاك، وهو قليل المديح بالقياس إلى بعض موضوعاته كالغزل والفخر مثلاً، ولكنه مدح إسماعيل، ولما عاد من منفاه أكثر من مديح الخديوي عباس حلمي الثاني وهنّأه في عدة قصائد، وهو يتابع في مديحه معاني الأقدمين .
الجديد في بناء القصيدة للبارودي :

إن إعجاب البارودي بالقديم ومحاكاته والاستفادة منه لم يكن انسلاخاً عن عصره وتجاربه الخاصة، وإنما كان ذلك إعجابه لما في شعر لفحول من جودة فنية لا يجدها في شعر عصره، وهو لم يذب في معارضته ومحاكاته للقدماء في شخصياتهم وأساليبهم وتجاربهم، وكأنه أدرك أنه في عصر خلا من الشوامخ الشعرية، فتمنى لو وجد في زمان الشعراء الكبار ليجاريهم ويتسابق معهم ،، ولم يمنعه هذا من التجديد في شعره وإذا تلمسنا الجديد في ديوان البارودي فإننا نجد الأمور التالية:

1) جديد الصياغة:
شعر البارودي واحد في أسلوبه وصياغته في الإحيائي منه والجديد، وهو شعر الطبع، في حين كان الشعر في زمانه صنعة خالصة بعيداً عن الحياة والصدق وشخصية صاحبه، كالتجارب الشعرية الاصطناعية ( أحرف مهملة ـ أحرف منقطة ـ تأريخ لولادة أو وفاة أو ما شابه ذلك ......إلخ) .

وهو شعر التوهم، ولما جاء البارودي ردّ إلى الشعر هيبته، ونفض عنه غبار العصور الهزيلة، فكان طبيب الشعر العربي انقضّ بمقصّه الجراحي الذهبي على الورم في جسد الشعر الذي عاد بعد ذلك إلى أجوائه الحرة الطليقة.

وشعره ينساب انسياباً في يسر وتؤدة كما ينساب الماء من ينبوعه ويتدفق ، وينبثق في طلاقه كما تنبثق من الشمس أشعتها ومن الزهر أريجه.

2) الجديد في قديمه:
نجد الجديد في قديمه ذاته، ففي المعارضات ـ مثلاً ـ جديد كثير ، فهو لا يبني معارضاته على التماثل ، وإنما يتحدّث عن تجربته ، فداليته التي عارض فيها دالية المتنبي ، حديث عن تجربته في العبث في أيام الشباب ، وهي حديث عن تجربته في عدم إجادة صديق مخلص، وعن رؤيته الدهر الذي يرفع الوضيع ويخفض الرفيع، وهي دعوة إلى الثورة على الظلم والفساد ، ثم يعود إلى الفخر بنفس÷ز

وهذه موضوعات مختلفة كل الاختلاف عن موضوعات القصيدة المعارضة ، ومعظمها في مديح كافور الإخشيدي ، وكأن البارودي لم يستفد من القصيدة المثال إلا نغميّاً .


3) الذاتية في شعره:

البارودي شاعر الذاتية في عصره، وليس المقصود بالذاتية أن يتحدث الشاعر عن إحساساته تجاه الآخرين ( رثاء ــ مدح ....) فحسب وإنما المقصود بها ــ كذلك ــ أن يختلف عن شعراء عصره أسلوباً وصياغةً وموضوعاتٍ ، وهذه سمة من أهم سمات شعره، فهو نسيج وحدة في أسلوبه السهل الممتنع وشعره هو حياته.

وتتجلى الذاتية في شعره في تصوير تجاربه الشخصية ، وأهمّها أنه عاش فروسية حقيقية ، وشارك في حروب كبيرة في عصره ، ووصف هذه الحروب ، ووصف الخمرة وصف الخبير العارف بها ، وليس وصف القراءة أو الذاكرة فحسب، وعاش تجارب حبّ حقيقية ، وأهم من ذلك أنه عاش تجربة النفي إلى سرنديب ، وكان شوقه إلى وطنه وأهله شوقاً حقيقياً وحنينه في قصائده عارم ، وهو يقسم الزمن إلى قسمين ، زمن مضي ، وهو زمن الشباب والحب والفروسية، وزمن حاضر ، وهو زمن الشيخوخة والنفي والسجن.

4) تصوير تجارب العصر:

ولم يقتصر الجديد عند البارودي على تصوير تجربته الشخصية ، وإنما تجاوزها إلى تصوير تجارب العصر، وأهمها وصف الفساد الذي عمّ بلده مصر في ظل الحكومات الاستبدادية في عهدي إسماعيل وتوفيق، فوصف الاستبداد الذي حلّ بالفلاح المصري ، كما وصف سوء الأحوال وزعزع الأرض ، وتنبأ بثورة الشعب.

5) استخدام ألفاظ معاصرة :

إن القديم في شعر البارودي يختلط بالمعاصر ، فجذوره ممتدة في التراث الغني وأغصانه في الفضاء الرحب ، فنحن نجد رموزاً فنية قديمة لا يختلّي عنها البارودي ، من أمثال ( العقيق ـ البان ـ العلم ـ كاظمة ـ اللوى ـ الخزامي ـ الركب ـ الصحراء ـ القافلة ـ الحادي ) .





وقد استخدم البارودي ألفاظاً أخرى دخلت الحياة العامة في عصره، كاستخدامه لفظة ( الكهرباء) للتعبير عن تأثير الحسن في نفسه، وكاستخدامه لفظة ( الطيارة ) للتعبير عن الهزال الذي ألمّ به من جراء الحب، وكاستخدامه لفظة ( المنظار ) في تشبه العقل بها، ولفظة ( أسلاك البرق) للتعبير عن الود بينه وبين أحد شعراء الهند.

6) نشدان المثال في الصورة:
ينزع البارودي في صوره إلى المثال أكثر ما ينزع إلى الواقع ، فهو في فخره يقدّم صورة مثالية عن نفسيته وأخلاقه وفروسيته، وهو في غزله يقدم صورة أخرى عن العاشق العذري المتيم الذي كاد يقتله هواه، ويقدم صورة عن الحبيبة هي أقرب إلى المثال العذري، ولذلك كان البارودي مثالياً في طلبه الصديق الذي لا وجود له في الواقع ، وصفات هذا الصديق فوق إنسانية ، ومن هنا يمكننا أن نفسر موقفه من المجتمع والناس، فهم ــ في شعره ــ غدّارون نمّامون، وهو يقيم الموازنات بين أخلاقه الرفيعة وأخلاق الآخرين ويطلب منهم أن يكونوا على الصورة التي رسمها.


7) الدعوة إلى الإقبال على العلم وافتتاح المدارس:
وهذا من جديد البارودي في زمنه ، فقد بين في صباه قصيدته الميمية (38بيتاً) التي خصها بالحديث عن فضل العلم أن العلم قوّة تمتاز بها الحضارات بعضها من بعض، وقد فضل قوة العلم على قوة السيف مع أنه الفارس الشهير، وعنده أن العلم أساس الحضارات ، ونتائجه في الآثار الباقية كالهرم ,وأبي الهول وغير ذلك، وهو يدعو في قصيدته إلى العلم ويشجع افتتاح المدارس.
الأبيات المختارة للدارسة من القصيدة البائية
سوايّ بتحنان الأغاريد يطرب
للبارودي


ســـواي بتحنان الأغاريد يطــربُ .. وغيري بالـــذات يلــــــهو ويلعـبُ
وما أنا مّمــن تأسرُ الخمــرُ لُبّــــهُ .. ويملك سمعيــه اليــراع المثقـــبُ
ولكـــن أخــوهم إذا ما ترجحـــتْ.. به سورةٌ نحــو العلا راح يـذابُ
نفى النــوم عن عينيه نفسُ أبيـــةٌ.. لهـا بين أطــراف الأسنة مطلــبُ
بعيد منــاط الهمّ فالغــربُ مشـرِقٌ.. إذا ما رمـى عينيه والشرُ معــربُ
ومن تكــن العليـــاء همــة نفســهِ .. فكــل الذي يلقـــــاه فيـها محــــببُ
إذا أنا لــم أعطِ المكـــارم حقـــها .. فلا عــزني خـالٌ ولا ضــمني أبْ
أسير على نهــجٍ يرى الناس غيره.. لكل أمــريءٍ فيما يحـــاول مذهبُ
وبحرٍ من الهيــجاء خُضتُ عُبـابهُ .. و لا عاصم إلا الصفيـحُ المشطبُ
تظــــل به حُمر المنــايا وسودهــا .. حواســرَ في ألوانـــــها تتقـــــلبُ
توسطّتـــه والخيل بالخيـــل تلتقـي .. وبيض الظبا في الهام تبدووتغربُ
فما زلــــتُ بين الكـــــر موقفـــي .. لدى ساعةٍ فيــــها العقــــول تغيبُ
لدن غدوةٍ حتـى أتى الليل والتقــى .. على غيهب من ساطع النقع غيهبُ
كـــذلك دأبي في المـراس وإننـــي .. لأمرح في التصــابي وألعبُ
وفتيـان لهوٍ قـد دعـــوت وللكـرى .. خباءٌ بأهـــــداب الجفون مطــنبُ
إلى مربع يجــري النســـيم خـلاله .. بنشر الخــــزامى والندى بتصببُ
فلم يمضي أن جاءوا ملبين دعوتي .. سراعاً كم وافى على الماء ربربُ
بخيل كـــــآرام الصــــريم وراءها .. ضواري ســــلوق عاطل وملــببُ
من اللائي لا يأكلن زاداً سوى الذي .. يضرسنهُ والصــيد أشهى وأعذبُ
ترى كل محــمر الحمــاليق فاغراً .. إلى الوحــش لا يألو ولا يتنصــبُ
يكاد يفوق البــــرق شداً إذا انبرت .. له بنت ماءً أو تعــــرض ثعــــلبُ
فملنا إلـــى وادٍ كــــــأن تلاعـــه .. من العصب موشي الحبائك مذهبُ
تروح به الآمــــال بعد كلالهــــا .. ويصبو إليه ذو الحجا وهو أشـيبُ
فبينا نرود الأرض بالـعين إذ رأى .. ربيئنــــا سرباً فقــــــال ألا اركبوا
فقمنا إلى خيل كــــأن متــــونها .. من الضمرخوط الضيمران المشدبُ
فلما انتهينا حيث أخبر أطلـقت .. بزاة وجـــــالت في المقاود أكلــبُ
فما كان إلا لفتــــة الجيد أن غلت .. قدور وفار اللــحم وانفـض مأربُ
فقلنا لســــاقينا أدرها فإنما .. قصارى بني الأيـــام أن يتشــعبوا

..............................

تحليل المقطع الأول:

ســـواي بتحنان الأغاريد يطــربُ .. وغيري بالـــذات يلــــــهو ويلعـبُ
وما أنا مّمــن تأسرُ الخمــرُ لُبّــــهُ .. ويملك سمعيــه اليــراع المثقـــبُ
ولكـــن أخــوهم إذا ما ترجحـــتْ.. به سورةٌ نحــو العلا راح يـذابُ
نفى النــوم عن عينيه نفسُ أبيـــةٌ.. لهـا بين أطــراف الأسنة مطلــبُ
بعيد منــاط الهمّ فالغــربُ مشـرِقٌ.. إذا ما رمـى عينيه والشرُ معــربُ
ومن تكــن العليـــاء همــة نفســهِ .. فكــل الذي يلقـــــاه فيـها محــــببُ
إذا أنا لــم أعطِ المكـــارم حقـــها .. فلا عــزني خـالٌ ولا ضــمني أبْ
أسير على نهــجٍ يرى الناس غيره.. لكل أمــريءٍ فيما يحـــاول مذهبُ

المفردات:
التحنان / الصوت المطرب.
اللب / العقل .
اليراع / المزمار.
سورة / حدة .
بعيد مناط القلب/ ذو مطامح لا تحدها حدود .

الفكرة الرئيسية:
البيت الأول: يفخر الشاعر في هذا البيت بأنه ليس ممن تستخفه نشوة الطرب ويسيطر عليه النزوع إلى اقتناص اللذة واللهو.
البيت الثاني : وهو لا تغيبه عن رشده الخمرة ، وتصرفه إلى سماع الألحان العذبة.
البيت الثالث : أنه ذو عزيمة قوية وطموح وثاب يشغله عن هذه الأمور التافه.
البيت الرابع : لقد أقضت مضجعه وطردت النوم عن عيونه هذه العزيمة القوية ، فنفسه العالية تأبى الضيم وترنو إلى تحقيق المطالب الصعبة التي لا تنال إلا بشق الأنفس وخوض المعارك.
البيت الخامس: أن همته تضيق رقعة الأرض أمامها، وتختصر المسافات ، فلا فرق بين المشرق والمغرب إذا ما اقتضت حاجته ذلك.
البيت السادس: ثم ينتقل الشاعر كر بعد ذلك إلى الحكمة والحكمة عنده وثيقة الصلة بوجدانه وتجربته الذاتية فهي ليست حكمة مجردة ، ذهنية الطابع، بل يحسن التخلص إليها من واقع إحساسه بنفسه وبقدراته، ويمزجها بالفخر مزجاً وثيقاً كما نرى الأبيات الثلاثة الأولى ، فهو يقرر أن من يريد أن يصل إلى قمة المجد فإن ما يصادفه في سبيل ذلك من عنت وإرهاق أمر مرغوب فيه.
البيت السابع: أن اكتساب المحامد لا بد أن ينال بثمن غالٍ، هذا الثمن هو الذي أشار إليه الشاعر في قوله( إذا أنا لم أعطي المكارم حقها....إلخ) رابطاً بين الحكمة والفخر فكأنه يستدل على صدق مقولته هو ، حيث يدعو على نفسه ويصفها بأنها غير جديرة بإعزاز الخال والانتساب إلى الأب إذا لم يقدم الثمن المطلوب لبلوغ أرقى مراتب المجد.
البيت الثامن: وتظهر شخصية البارودي واضحة جلية في حكمه فهو يقرر أن له نهجاً خاصاً قد يختلف مع الناس بشأنه ، ولكن ذلك يثنيه عن التمسك به، فكل إنسان طريقته ومنهاج خاص، وهنا يتضح الربط بين الحكمة والإحساس بالذات ، أو ما يسمى بالربط بين العام والخاص ، أو الذاتي والموضوعي ، الأمر الذي دفع العقاد إلى أن يشير إلى هذه الخاصية في شعر البارودي فهو يرى أنه فنان مبدع في إتباعه وتقليده للقدماء وأن شخصيته تتضح في شعره، في حين يرى بعض الباحثين غير ما يرى العقاد.

القيم الفنية:
أولاً: أول ما يلفت الانتباه في هذه الأبيات استهلالها بمطلع ( مصرع) على عادة الشعراء القدامى ، حيث التراث الموسيقي الناجم عن تماثل القافية في الشطرين مما يكون له وقع في نفس المتلقي يوقظه ويحفزه لعملية التلقي.
كذلك فإن اختيار الشاعر للبحر الطويل وهو يشتمل على ثمان وعشرين مقطعاً، من أحفل البحور الشعرية بالرصانة والعمق، وهو يعطي إمكانية للسرد والعرض ، ولهذا يناسب القصائد القصصية والملحمية.

ثانياً: استخدام الشاعر لأسلوب النفي من أجل الإثبات فهو ينفي عن نفسه الطرب لأصوات الغناء واللهو باللذات، وهذا أمر لافت ، وظاهرة أسلوبية فيها خروج على المعتاد من الكلام المألوف، وقد جاء الإثبات بعد ذلك في شكل تقرير بعد أن هييء المتلقي وحُفز عن طريق التشويق لأن النفي يثير حب الاستطلاع في النفس.




ثالثاً: التقديم والتأخير في الأبيات حيث أخر الفعل في البيت الأول وقدمت متعلقاته، وقدم المفعول به في الشطر الثاني( ويملك سمعيه اليراع) وأخر الفاعل ، كذلك في الشطر الأول من البيت الرابع، كل ذلك من أجل وقع أشد للمعنى وتوكيده في ذهن المتلقي ووجدانه.

رابعاً: الغنى الإيقاعي الناجم عن استخدام القافية البائية والحروف وتكرار نوع معين منها كالنون في ( تحنان) ( ونفي النوم من عينه نفس) واللام والميم، وما إلى ذلك ، ثم التضعيف في العديد من المفردات( اللذات، اللب، ترجحت، أبية، همة، محبب، ضم...) والياء الساكنة التي تكررت في النص، كل ذلك يمنح إحساسا بالقوة والجزالة.

خامساًً: الكناية في الأبيات من الظواهر البلاغية البارزة وخصوصاً في قوله (أخوهم) فضلاً عما تعنيه في البيتين الأولين، وفيها خفاء محبب يلطف من حدة المباشرة(لها بين أطراف الأسنة مطلب) والتشخيص ( تأسرا لخمر ويملك سمعيه اليراع) في إطار الاستعارة يمنح النص حيوية وحركة.

تحليل المقطع الثاني:
وبحرٍ من الهيــجاء خُضتُ عُبـابهُ .. و لا عاصم إلا الصفيـحُ المشطبُ
تظــــل به حُمر المنــايا وسودهــا .. حواســرَ في ألوانـــــها تتقـــــلبُ
توسطّتـــه والخيل بالخيـــل تلتقـي .. وبيض الظبا في الهام تبدووتغربُ
فما زلــــتُ بين الكـــــر موقفـــي .. لدى ساعةٍ فيــــها العقــــول تغيبُ
لدن غدوةٍ حتـى أتى الليل والتقــى .. على غيهب من ساطع النقع غيهبُ
كـــذلك دأبي في المـراس وإننـــي .. لأمرح في التصــابي وألعبُ


المفردات:
الهيجاء / المعركة ( الحرب).
العباب / الأمواج المتلاطمة.
العاصم / الحامي.
الصفيح المشطب/ السيوف الصقيلة.
المنايا / الموت.
حواسر / كاشفة وجهها.
الظبا / جمع ظباة وهي حدة السيف.
الهام / جمع هامة وهي الرؤوس.
غيهب / شدة الظلمة.
دأبي / عادتي.
المراس / القتال.
غي / ضلال.
التصابي/ لهو الشباب.

الفكرة الرئيسية:
البيت الأول: هذه أبيات في الحماسة جاءت متصلة بما قبلها في معرض الفخر، وهو يصف فيها المعركة التي خاضها بقوله إنها أشبه بالبحر الخضم المتلاطم الأمواج، لا ملجأ فيه ولا ملاذ إلا للسيوف القاطعة.
البيت الثاني : يستمر في وصف تلك المعركة ويقول أنه يطل من عباب هذا البحر موت أحمر تارة وأسود تارة أخرى ، أما الحمرة فهي وصف حسي يشير إلى لون الدماء، وأما السواد فهو وصف معنوي يشير به إلى أهواه ومصائبه.
البيت الثالث : يقول أنه كان يخوض لجة المعركة إبان احتدامها حيث يلتقي الجمعان والسيوف تغيب في الرؤوس تارة وتطل تارة أخرى مضرجة بالدماء.
البيت الرابع : إنه مازال في كر وفر حتى بدا للجميع موقف الشاعر وتجلت شجاعته في وقت ذهبت فيه العقول من شدة الهول.
البيت الخامس: وقد استمرت المعركة طوال النهار حتى أتى الليل وكان غبار المعركة قد خيم فوق الساحة وكأنه ليل آخر فالتقى الليلان، ويبدو أن الشاعر في هذه الصورة
متأثر بقول بشار بن برد:



كأن مُثارَ النقعِ فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاو كواكب
البيت السادس: يعبر الشاعر عن نمط حياته التي كان يعيشها في قوله ( كذلك) دأبي في المراس .....إلخ) .

القيم الفنية:
أولاً: اختار الشاعر ألفاظاً ذات جرس قوي تتناسب مع طبيعة الموضوع حيث وصف المعركة ، ولهذا جاءت كلمة الهيجاء بإيقاعها القوي الممتد، فالياء الساكنة والجيم المعطشة توحيان بالاضطراب، والألف الممدوة تشي بالاتساع ، فاللفظة تصويرية، وكذلك كلمة ( العباب) حيث العين والباء المكررة ، والعين حرف حلقي يوحي بالضيق واشتداد الأزمة وكذلك الباء المكررة توحي بالاحتشاد والازدحام والتضعيف في ألفاظ القافية،

ثانياً: نوعية المعجم المختار حيث تتراوح حقولها الدلالية بين القوة والمنعة ( الخوض، عاصم) والحدة في مفردات الحرب ( الخيل والظبا والكر والنقع) كذلك الظلام والكثافة ( الغيهب والظلام ) كما تبدو الألوان موظفة توظيفاً دالاً، فقد زاوج فيها بين المعنوي والحسي ( السواد والحمرة) . وجاءت المقابلة في قوله ( تغدو وتغرب) معبرة عن سرعة الانتقال من الشيء إلى نقيضه في حركة خاصة بثت حيوية هائلة في المشهد.

ثالثاً: جاءت الأفعال المضارعة مناسبة للتصوير المشهدي حيث أمسكت بالمنظر في حالة حركة دائبة وجعلته مائلاً للعيان ، وكان التكرار ( الغيهب والخيل) في الألفاظ شاحناً للحركة مزجياً لإيقاعها فجاءت الصورة مشهدية تضم عدداً من الصور الجزئية التي تلتئم في لوحة متكاملة ، وقد أبدع في تجسيد المعنوي في صورة تخليلية في قوله تظل به حمر المنايا) ولم يقتصر على التجسيد بل شخص الموت وجعله امرأة حاسرة متعددة الأشكال والألوان. وفي كلمة حواسر ما يومئ إلى الموت وحضوره.

تحليل المقطع الثالث:

وفتيـان لهوٍ قـد دعـــوت وللكـرى .. خباءٌ بأهـــــداب الجفون مطــنبُ
إلى مربع يجــري النســـيم خـلاله .. بنشر الخــــزامى والندى بتصببُ
فلم يمضي أن جاءوا ملبين دعوتي .. سراعاً كم وافى على الماء ربربُ
بخيل كـــــآرام الصــــريم وراءها .. ضواري ســــلوق عاطل وملــببُ
من اللائي لا يأكلن زاداً سوى الذي .. يضرسنهُ والصــيد أشهى وأعذبُ
ترى كل محــمر الحمــاليق فاغراً .. إلى الوحــش لا يألو ولا يتنصــبُ
يكاد يفوق البــــرق شداً إذا انبرت .. له بنت ماءً أو تعــــرض ثعــــلبُ

المفردات:
الكرى / النوم
خباء / خيمة
مطنب / مشدود إلى الأوتاد
مربع / مكان
الخزامي / نبات صحراوي طيب الرائحة
ربرب / ولد البقر الوحشي ( ويطلق على القطيع من البقر الوحشي)
الآرام / الظباء
الصريم / اسم مكان
سلوق / كلب الصيد
عاطل / ليس في عنقه طوق
ملبب / مطوق
يضرسنه / يطأنه بأضراسهن
الحماليق / جمع حملوق والمقصود به العين الواسعة
فاغر/ فاتح فمه
لا يألو / لا يكل عن ملاحقة فريسته
لا يتنصب / لا يصيبه النصب أي شدة التعب
بنت الماء / الطيور




الفكرة الرئيسية:
البيت الأول: يقول دعوت رفاقي الذين اعتدت أن ألهو معهم في وقت اشتد فيه النعاس وأخذ يداعب العيون، وقد استعار للتعبير عن هذا الموضوع صور بدوية منتزعة من صميم البيئة الصحراوية القديمة فشبه النوم ببيت من الشعر ضربت أوتاره برموش العين ، معبراً عن الاستغراق الشديد في النوم .
البيت الثاني : وقد كان مكان الدعوة في منزل عامر بأجواء الربيع الشذية حيث النسائم العلية تحمل رائحة الخزامى ( وهو نبت صحراوي ذو رائحة جميلة ) وكان الندى يتقاطر.
البيت الثالث : فما لبث هؤلاء الرفاق أن لبوا الدعوة مسرعين مشبهين في ذلك سرب البقر وورودهم إلى الماء فرحين مسرورين.
البيت الرابع : كان الرفاق يركبون خيول ضامرة في تلك المنطقة ( الصريم) وخلف الخيول كلاب الصيد مطوقة وغير مطوقة.
البيت الخامس: وهذه الكلاب لا تأكل إلا ما تصطاده وفي هذا البيت إشارة إلى شراسة هذه الكلاب وقوتها.
البيت السادس: ثم بدأ يصف كلاب الصيد هذه فهي متسعة العيون ، حمر الحدقات، فاتحة أفواهها متأهبة للإمساك بفرائسها.
البيت السابع: هذه الكلاب تعدو نحو فرائسها بلا كلل أو ملل ، وتكاد تسبق البرق من فرط سرعتها إذا ما لاحت أمامها طيور الماء أو الثعالب.

القيم الفنية:
أولاً: يلاحظ أن النص قد حفل بعدد من المفردات غير المألوفة وأغلبها في الطرد الذي له مصطلحاته الخاصة ومعجمه المحدد، وقد بدأ الشاعر أن نحا منحى قصصياً سرديا وقد طغى الجانب الوصفي على النص.

ثانياً: والصور بدوية صحراوية فبيت الشعر الذي تضرب أطنابه بأهداب الجفون والخزامى والندى وآرام الصريم كل ذلك يدخل في إطار الصورة الصحراوية .


ثالثاً: وقد كان للأحياء من الحيوانات نصيب مهم في تشكيل الصورة( محمر الحماليق) و( بنت ماء) وما إلى ذلك، كما أن الصورة الوصفية ذات العناصر الطبيعية في قوله ( إلى مربع يجري النسيم...) تناسب الرحلة الطردية عبر الصحراء.

رابعاً: وقد اعتمد الكاتب أيضاً على التشبيه فشبه الخيل بغزلان الصريم ، وسرعة الكلب كسرعة البرق، والصحاب أتوا مسرعين كما يأتي القطيع إلى الماء.

خامساًً: أكثر الشاعر من الجمل الحالية مما يجعل المشهد ماثلاً، وكذلك الجمل الوصفية ذات الفعل المضارع ( إلى مربع يجري النسيم خلاله) أو الاسمية، كما أن خاصية الاستقصاء مرتبطة بوجود الجمل الحالية والوصفية، وكذلك الأوصاف والأحوال المفردة، والنص غني بها، كما أن الازدواج المائل في نهايات بعض الأبيات وجمل التذييل ، كل ذلك يحقن النص بإيقاع داخلي وقد اعتمد الشاعر كلية على الجمل الخبرية التقريرية فهي أنسب للوصف ، وقد بدا واضحا أن إيقاع الحروف المتماثلة خصوصاً السين والصاد ( يضر سنه والصيد ) فيها تمثيل صوتي للمعنى .

تحليل المقطع الرابع :
فملنا إلـــى وادٍ كــــــأن تلاعـــه .. من العصب موشي الحبائك مذهبُ
تروح به الآمــــال بعد كلالهــــا .. ويصبو إليه ذو الحجا وهو أشـيبُ
فبينا نرود الأرض بالـعين إذ رأى .. ربيئنــــا سرباً فقــــــال ألا اركبوا
فقمنا إلى خيل كــــأن متــــونها .. من الضمرخوط الضيمران المشدبُ
فلما انتهينا حيث أخبر أطلـقت .. بزاة وجـــــالت في المقاود أكلــبُ
فما كان إلا لفتــــة الجيد أن غلت .. قدور وفار اللــحم وانفـض مأربُ
فقلنا لســــاقينا أدرها فإنما .. قصارى بني الأيـــام أن يتشــعبوا

المفردات:
تلاعه / تلاله
العصب/ البرود المخططة
موشى / مزخرف
مذهب / مطلية بالذهب
الكلال / التعب
تروح / تستريح
يصبو / يهفو ويميل
ربيئتنا / المتقدم من الصيادين
نورد الأرض بالعين / نجول بأبصارنا فيها
متونها/ ظهورها
الضيمر/ النحول
وخوط الضميران / نوع من الشجر
فار اللحم / نضج
انفض مأرب/ قضيت الحاجة وانتهى الأمر
المقاود/ جمع مقود وهو كالعنان للفرس

الفكرة الرئيسية:
البيت الأول: يواصل الشاعر هنا وصفه لهذه الكلاب ويواصل سرده لقصته مع رفاقه حيث نزلوا بواد تلاله تشبه في جمالها البرود ( الثياب ) المخططة المزخرفة المذهبة.
البيت الثاني : فارتاحوا بعد التعب في هذا المكان الذي تهفو إليه النفوس من ذوي العقول الراجحة التي وخط الشيب مفرق أصحابها.
البيت الثالث: وبينما هم في أماكنهم وإذا بالمتقدم منهم ( الربيئة) يرى سرباً من الحمر الوحشية ، فطلب من رفاقه أن يركبوا مطاياهم .
البيت الرابع : فقمنا إلى خيولنا التي تشبه شجر الضيمران في نحافتها وضمور ظهورها.
البيت الخامس: فلما وصلنا أطلقنا صقورنا وكلابنا على تلك الحمر الوحشية .
البيت السادس: وما هي إلا التفاته يسيرة حتى امتلأت قدورنا باللحم من حصيلة صيدنا، وقضينا حاجتنا من الطعام .
البيت السابع: يمثل هذا البيت غرضاً جديداً في القصيدة وهو وصف الخمر ، ولم أحسن الشاعر التخلص من الغرض السابق إلى الغرض الجديد فبدت الوحدة والتسلسل في أغراض القصيدة.





القيم الفنية:
أولاً: في قوله ( بني الأيام ) كناية عن البشر وأن يتشعبوا ( أن يتفرقوا) وقد لجأ الشاعر إلى التشبيه التمثيلي في وصفه للشرب.

بناء القصيدة:
أولاً: يتضح لنا بعد قراءتنا لهذا النص قراءة واعية أن الشاعر التزم نهج الأقدمين في بنائه الفني، فقد اعتمد على وحدة البيت بدلاً من الوحدة الموضوعية( العضوية) التي تجعل من القصيدة خليقة فنية مترابطة تدور حول محور واحد، التي بني عليها القصيدة هي النمط الفني الذي كان سائداً في شعرنا العربي القديم.
ثانياً: وقد بني الشاعر قصيدته على عدة موضوعات ، فبدأ بالفخر والاعتداد بالذات والطموحة التي تأبى الانقياد إلى الذات بل ترنو إلى المجد من الأبيات(1-5)
ثالثاً: ثم تخلص بعد ذلك إلى الحكمة ، ولكنها ليست حكمة مجردة بل هي مستقاة من واقع التجربة ، يستدل بها في معرض فخره بنفسه، فهي رديف الأول مكملة له.
رابعاً: ثم ينتقل بعد ذلك إلى وصف المعارك التي خاضها ، وهو ما يسمى بالحماسة في الشعر العربي القديم ، ولكنه لا ينتقل إلى هذا الغرض على نحو فجائي بل يحسن التخلص إليه يبدو ملتحماً بالموضوع الأول ( الفخر) بل إن حماسته تدخل في إطار الفخر بذاته والاعتداد بها ويصف فيها تجربته الخاصة، ولكنه يستعير القوالب التعبيرية القديمة منتقياً أكثرها جزالة وقوة.
خامساً: حين ينتقل إلى الحديث عن الوجه الآخر لحياته لا نحس بالنقلة الاستطرادية في قصيدته بل ينساب بنا انسياباً تلقائياً عبر بيت من الشعر يحكم خلاله الربط بين هذا الجزء والجزء السابق حيث يقول :
كــــــــــذلك دأبي في المراس وأنني لأمـــــرح في غي التصابي وألعب
فهو يجمع فيه بين جانبي الحياة التي يعيشها تمهيداً للتعبير عن صبواته ومجالس لهوه، ومن خلال هذا يتحدث عن الطرد وهو من أغراض الشعر العربي القديم.
سادساً: ثم يختم القصيدة بالحكمة الخالصة ، وكأنها عصارة هذه التجربة القديمة الحديثة التي يصوغها الشاعر فهي حكمة فيها ملامح ذلك التأمل الفلسفي الذي عهدناه في شعر المتنبي وأبي العلاء ، غير أن هذه الحكمة تلتئم مع باقي أجزاء القصيدة وكأنها نتيجة منطقية لتلك المقدمات التي وردت في صلب القصيدة.





  رد مع اقتباس
قديم 06-02-08, 01:50 AM   #2
الزعيم سام6

مراقب منتديات في آي بي العامة
افتراضي

 

مشكور على الموضوع





  رد مع اقتباس
قديم 06-02-08, 07:22 AM   #3
عزوز

كبار الشخصيات
افتراضي

 

الله يعطيك العافيه ..





  رد مع اقتباس
قديم 19-02-08, 02:42 AM   #4
للتميز عنوان

( تاجر )
افتراضي

 

الله يعطيك الف عافية





  رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
االبحتري,, وفنونه الشعرية وحيد المشاعر المنتدى العام 3 19-02-08 02:41 AM
محمود سامي البارودي وحيد المشاعر المنتدى العام 3 19-02-08 02:39 AM




جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:21 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.9
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
موقع في آي بي للبيع والشراء

للبيع والشراء